الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة أمينة فاخت في سهرتها الثانية بمهرجان قرطاج الدولي: إذا حبّوك، ترتاح؟!؟!

نشر في  26 جويلية 2018  (11:39)

بقلم فاطمة بوصوفة
عاشقة فن
كانت الساعة تشير إلى التاسعة ليلا حين وصلنا لبوابة الدخول للمسرح الأثري بقرطاج.
"ارمي الغربال، يركح." لطالما كانت أمي وجدتي وخالتي وجاراتنا تستخدمن 
هذه الإستعارة الغربالية للتعبير عن الإكتظاظ والزحمة.
سعر تذكرة المقاعد الأمامية المتاخمة للركح بلغت 80 دينار تونسي وأغلب الجالسين عليها من الشخصيات الرسمية وأصحاب وصاحبات السعادة والمعالي ومن حاباهم وجاورهم.
أما المدارج حيث وصلتني تذكرتي هدية من أختي وزوجها بلغت خمسين دينار تونسي: تلك كانت صاعقتي الأولى. سرعان ما حاولت تبديد وقعها من خلال إقناع نفسي بغلاء الدنيا وصعود الدولار.
وما علاقتنا نحن بالدولار أمام حفل لمنتج وطني محلي بحت.
كانت قد أزمعت من سنوات على الإعتزال وحسبنا أننا ترزينا فيها وهي الأيقونة النادرة، الديفا، صاحبة الصوت المخملي والحضور الوحشي، نسبة للتعبيرة الفرنسية: une bête de scène
لكنها عادت وكذّبت نفسها وهواجسها وضعفها أو لعله أحد تكتيكاتها لصنع البوز وهي خاصية أهل الشوو بيز، الذين يمتلكون أسرار وكنه تحريك خيوط اللعبة والمنجذبين لها ولمحركتها.
عادت إذن أمينة فاخت بعد غياب طال الثمان سنوات.
أوشك الحفل على الإنطلاق والناس لا تزال تتوافد على المدارج والمقاعد المبجلة فرادى وجماعات.
تقول لأحد الجالسين الذي يعترض ممرك المزدحم: " سامحني يعيشك نتعدى،" يفوح فيك وما ناقص كان يلفك بكف.
كان عينك تحصّل بقعة إيجا بكري، كان لزم جيب زادك وزوادك من ماء وغداء وعشاء زادة، شبيك راهي أمينة شيخات وما اندراك.
أيا كلو يهون من أجل التشجيع على المنتوج الوطني المخملي.
أخيرا لقينا بقعة مقابلة للركح.
1_ وانطلقت السهرة مع تقريبا خمسين عازف وكانت "الأتاك" الإفتتاحية من نصيب النشيد الوطني وقف له الجمهور الحاشد كجسد واحد.
تلتها أغنية وطنية قديمة: "موعدنا أرضك يا بلدنا!"
_ترجع بعد غياب سنوات باش تجمّر البايت؟!
تي ريض يا فاطمة ويزي مالتنبير، هيه اش كان عليه كي تجمّر بايت بنين والجمهور هو إلي يغني وأمينه تتأوه من البنة والتلذذ. وبين الآه والآه تتلوى وتدبّك، وترعش من وراء قماشة موسلين شفاف يغطي على فستان يلتصق بالجلد ويصل لحد فوق الركبتين كاشفا على ساقين مقولبتين مرمريتين لاتزالان تحتفظان بجمالهما وفتنتهما. أما خلينا نركزو على الصوت وما سيقدمه مع هذه الفرقة الموسيقية المتمكنة من أدوات عزفها بقيادة محترفة أشادت الديفا ذاتها بذلك في تدخلاتها المستقطعة للأغنيات والمتداخلة بكلام فرنسي مطعم بالمحلية التونسية، وهذه من السيمات التي عرفت بها أمينة منذ انطلاقتها مع الحفلات العامة خاصة على مسرح قرطاج.
طيب، أوكي، السهرة مازالت طويلة ولازم فيها الجديد الفني المفاجئ لهذا الجمهور العظيم المحب، الذواق.
وجاءت الأغنية الثانية لتخرس صوتي المتهكم:
أغنية وطنية ثانية لكنها جديدة،
نأتي الآن إلى كلمات الأغنية التي حاولت جاهدة التركيز معها وأنا أقول لنفسي: يزي، يكفي، ما تظلمهاش، وزيد كمل للآخر، بالك يجي بيت هكة فلتة يتحفر في الذاكرة:
نحبّك يا بلدنا!
جملة واحدة لا أكاد أقول أنها بيت شعري، هي قول، هكذا يكرر كلمة الحب ويلكلكها ويلوكها ككلمة فضفافة، كيفها كيف خواء معنى البلد من معناه.
الأعنية الثالثة جديدة هي الأخرى، موش مشكل أنها باللهجة المصرية:
ودايما كل ما احتاجلك ، أناديك/ توديني لسكة التنهيد
كلمات مركبة تركيب، ملفقة تلفيق، أغلب الوقت لا تصلنا كلماتها القليلة بوضوح، تلفظ غير واضح، سبقتها مقدمة موسيقية موزعة ومنفذة بشكل حرفي دقيق، وتعوم وتغطس في مناخات موسيقة عمار الشريعي، قد يكون هو ملحنها، ربما.
من إشكالات أمينة، أنها لا تقدم كتّاب وملحني أغانيها، تتعامل مع جمهورها وكأنه يعرفها مسبقا وتتركننا في التسلل أيضا حين يدخل شاب وهو ضيف سهرتها، يدخل ليغني أغنية للشيخ العفريت : ليام كيف الريح في البريمة، بأداء حسن وبتوزيع مغرب. ويخرج الشاب ولا نعلم من هو.
مع ابنتها ملكة كان الأمر مختلفا، ظلت تعانقها وتثني على صوتها بعد أن غنت أغنية بالفرنسية، وكنت ألاحظ ازبهلال الجمهور الذي يتقاطع مع بهتتي أمام برنامج حفلة مطربة غابت سنوات لتصعد ابنتها وتضعنا أمام أمر مقضي وحاسم بالإعتراف بها كمغنية صاحبة صوت قوي وتؤكد لنا بذلك آن الفن يمكن أن يورث ويورّث سيما وأنها أكدت لنا قناعتها تلك بتمرير فيديو أتى على شكل مباغت تغني فيه والدة أمينة فاخت المتوفية مقطعا من أغنية لصليحة: " سير، سير ، سير، سير يا لزرق سير،
لتعقّب أمينة إثرها أنها تنتمي لعائلة فنانة.
لا أعرف لم ذهني للحظة سرح بطريقة اللقطة السينيمائية الفلاش باك في مشهد تعاقب الحكام الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة على هذا البلد وعلى رأسهم الزعيم حيث تتوقف اللقطات الماورائية عنده وتحديدا عند تلك السلسلة التلفزية من توجيهات السيد الرئيس اذ يقوم من خلالها بدور الأب الذي يشرف على تربية أبنائه ويوبخهم إن لزم الأمر وهو يمنّ عليهم بحبّه.
Mais c'est magnifique!!
وتحيا تونس!!
عبارتان كررتهما أمينة طيلة السهرة وجعلت منهما تركيزة، تعكيزة، لتهييج الحس الوطني الجمعي لجمهورها، الذي يقاد بالمقودة العاطفية والإثارة الحسية حتى بهزة ورك مشحم،
ما يمكن أن يحسب لأمينة فاخت بعد هذا الغياب الطويل قدرتها على محافظتها على الحضور الركحي المثير الذي يرتكز على تعمدها لأسلوب العفوية في التوجه للحديث المباشر مع الجمهور أو أحد أفراد الحضور لتكريمه وتخصيصه بعبارات من الغزل مثلما كان الحال مع المغني بلغيث الصيادي الذي قطعت أغنيتها لتتغزل بعيونه الزرق،
كل هذا محبب وظريف ولطيف سيما والحال صيف حارق والجمهور قاطع آلاف الميترات بعد عناء يوم من العمل من حقه أن يضحك ويرقص وينبسط ويشيخ ويكحل،
هي، لكن ويني الخدمة ؟ وينو الفن؟ إلي مقابله تضرب كاشي خيالي ؟؟
تختم الفقرة الأولى التي تكونت من ثلاث أغاني بأغنية رابعة من قديمها وهي من أغانيها الناجحة جماهيريا:"سلطان حبّك" وطبعا تبدأ هي المطلع ويتكفل الجمهور عنها بغناء البقية كاملة وهي تحثة بعبارات فرنسية مشحونة بالحب وبالثناء عليه بالروعات والآهات، والنفخان في صورته وما فماش ما أعظم من الجمهور التونسي.
وهكذا دواليك. الجزء الثاني من الحفلة انطلقت بأغنية بلقاسم بوقنة وهي من رصيدها القديم والتي كانت قد مالت بها نجاحا عريضا رغم أننا لا نعلم إن كان صاحبها قد مال كن ذلك النجاح حقوقه أم مشات في المهموتة.
لا علينا، مادام الجمهور شايخ ويغني فيها ويرقص على أنغامها. تتواصل السهرة مع برنامج إعادة تجمير البايت من أغنية: يامّا عالمشينة، لأغنينها المصرية : اسألوا قلبي وعنيا، إلى أن طلعت أخيرا بآغنية جديدة: "سلطانة غرام" وأجدها نوعا ما فنية من الناحية الموسيقية أما الكلام فمن اللوعة والعتاب لم نبرح مكاننا.
مع منتصف الليل تغني ملكة ابنة أمين أغنية فرنسية: Si tu m'aimes بحضور وأداء أنيقين. وتعود أمينة لتغني أغنية ملحم بركات التي اشتهرت بها:" ولا مرّة" لتلفظ المطلع ويتكفل الجمهور بالبقية. إثرها تعود لتلوك أغنية بائتة من التراث التونسي " على الجبين عصابة" وتقفل السهرة في وقت غير متوقع بأغنية تونسية على إيقاع السوقة فيها الليعة وما إلى ذلك الحقل المعنوي، لكن الأهم أنها شطحت بها الجمهور وهذا هو المبتغى والمنشود. أثناء هذه الأغنية قدمت أمينة عازف القصبة الذي قدم صولو فني شاركته فيه أمينة بالرقص متنقلين على كامل فضاء الركح. نقطة ضوء لهذه السهرة.
عندما أنهت أمينة فاخت حفلتها بتحية الجمهور دعت فيها ابنتها ملكة والشاب الذي عنى وكنا نجهل اسمه ظلّ إثرها الجمهور في حالة ازبهلال وهتة من جديد وكأنه ممسك بالخواء، بألوان من فقاعات. هل يمكن أن يستمر فنان له من مقومات القبول عند الجمهور معتمدا فقط على أساليب جانبية تقوم على الإثارة العفوية المتعمدة في غياب لمشروع فني يظاهي الكاشي المشط الذي تتكبده الوزارة والمواطن بدفع سعر خيالي للتذكرة ؟
أتساءل بكل حب لصوت ذو قماشة فريدة ونادرة وبكل أسف لعدم استغلاله وتوظيفه في انتقاء لأشعار وألحان تليق به وترسم له مشروعا فنيا يخلّده. إلى مدى ستستمر وتصمد المقولة التونسية في تونس الآن والهنا: " إذا حبّوك، إرتاح، لا تشقى ولا تتعب." 

 صور زياد الجزيري